الثلاثاء، 31 يناير 2023

الفنون و الآداب.....بقلم الأديب د.محمد موسى

 "من مذكرات أستاذ جامعي" 


"الفنون والآداب ودورها في تنمية الوجدان"


     منذ كنت صبي في المدرسة الإعدادية ، وتربطني صداقة بالترزي الرجالي الذي محله أسفل البناية التي كنا نسكن فيها ، وظلت هذه العلاقة حتى توفاه الله سبحانه وتعالى ، وكان أبي رحمه الله يُرسلني وأخي إليه لأخذ المقاسات وعمل البنطلونات والقمصان والبدل لنا وكذلك عمل البروڤات ، ومما كان يلفت نظري دائماً داخل المحل آلة عود موضوعة في كيس من القماش ومعلقة على الحائط ، عرفت أنه ينهي العمل بالمحل الساعة الثامنه ليلاً ، والمحل له باباً من الزجاج بإطار خشبي وبعده باباً من الصاج لغلق المحل تماماً ، عندما يعود إلى بيته الذي يبعد كثيراً عن محل عمله ، وكان بعد الثامنه يأتيه أنور أفندي وهو موجه لغة عربية على المعاش وأحمد أفندي موظف في وزارة الأوقاف وعلى المعاش أيضاً ، وعبد الحميد بك وهو مستشار في محكمة النقض فيغلق الباب الزجاجي ، وَمعاً يظلون من الثامنه حتى التاسعة مساءً في سمر يعزف عم إبراهيم الترزي أعذب الألحان على عوده ويغني بصوته الشجي فيسعد السامعين ، وعادة يضع على سبرتايه عنده كنكه كبيرة من الشاي لزوم السهرة للحاضرين ، ويقوم بالتناوب أحد الحاضرين بإحضار لفة من الكباب ، أو لفة من اللحم والبصل والبطاطس من محل الكباب المقابل لدكان عم إبراهيم لزوم العشاء ، والجميل أن أحداً منهم لا يدخن ، وطلبت منه الحضور معهم كل ليلة فكنت أنا أصغر من يحضر معهم هذه الساعة ، بدون أن أشرب شاي حتى لا أسهر فمواعيد المدرسة كانت في السابعة صباحاً ،  وكنت لا أأكل معهم فأمي قد منعتني من الأكل خارج البيت ، وكنت أسعد جداً بهذه الساعة وأصعد إلى البيت وكلي نشوه ، ولكي لا تمنعني أمي من هذه السهرة ، فكُنت أتعمد عمل الواجب المدرسي أمامها بشكل يظهر إهتمامي بدروسي ، ففي هذه الأيام كان أخذ الدروس الخصوصية عيب ، فعدم التعلم من مرة واحدة من مدرس الفصل هو دليل غباء ، مما يدل على عدم الوعي ، ولأن أمي إنسانه مثقفة وأبي رجل واسع الإدراك ، فقد تعلم في أوربا فكانا يترُكاني بحريتي ، طالما أنا أأتي بما هو مطلوب مني فكنتُ من الأوائل في المدرسة ، والحقيقة أنني عشقت الموسيقى من عم إبراهيم الترزي ، وبسببه تعلمت وأجدت العزف على العود ، ومن خلال نقاشات في مواضيع متنوعة من الحضور ، كُنت قد حصلتُ على معلومات سبقت سني وزادتني معرفة ، ورغم حداثة سني يومها فإنهم كانوا ينظرون لي بكل تقدير ، وفي هذه السهرات تعرفت على المقامات الموسيقية والفرق بين السيكا مثلاً والنهواند ، ومن الجميل أن عم إبراهيم كان يجيد قراءة القرآن الكريم بالطبقات المختلفه والمقامات الموسيقية المختلفة ، والتي كان يجيدها المغفور له بإذن الله القارىء الشيخ مصطفى إسماعيل ، ولأني كنت أصغرهم بكثير فقد كنت أسمع فقط لهم في نقاشاتهم ولا أتكلم إلا إذا سُألت ، لذلك كانت الإستفادة منهم كبيرة ، فمن يجيد الإستماع لمن هو أكبر في السن والخبرة يكسب الكثير من المعرفة المجانية ، وأذكر أن بداية معرفتي بعبقرية كوكب الشرق المغفور لها بإذن الله السيدة أم كلثوم كانت من هؤلاء ، وكبرت وعشقت حفلات الأوبرا وكذلك حفلات الموسيقى العربية ، وحضرت أخر حفلات السيدة أم كلثوم رغم حداثة سني ، والصعوبات التي كُنت أواجهها عند الحصول على تذكرة للحفل ، كذلك كنت عضواً في نادي السينما ، والذي يعرض كل أسبوع فيلماً لا يُعرض في السوق التجاري ، وإذا كان بإحدى اللغتين الإنجليزية أو الفرنسية لا تصاحبه ترجمة بالعربية ، وإذا كان بأي لغة أخرى صحبته ترجمة باللغة الإنجليزية ، وأيضا أعترف بفضل نادي السينما في إجادتي لتلك اللغات ، وحضرت حفلات الأوبرا للموسيقار عمر خيرت الذي أعشق عزفه على البيانو والذي تعلمته من عشقي له ، وكنت أحب المايسترو جيمس لاست الذي صادفته في فيّنا عاصمة النمسا ، ولفت نظري طريقته في قيادة العازفين ، وتكرر حضوري لحفالات أقامها في باريس ولندن وواشنطن ، وظل أسلوبه يبهرني ، حتى صادفت المايسترو العالمي نادر العباسي في الأوبرا المصرية ، وكيف كان يجعل من الحضور مكمل للاوركسترا ومشاركاً في العزف ، كما كان يفعل المايسترو جيمس لاست ، سنوات كان يتم فيها بناء مشاعرنا والوجدانيات عندنا ، فنحن جيل عرف كيف يعيش ويستمتع بالحياة ، فنحن جيل تمتع بحضور الشيخ محمد متولي الشعراوي ، وسمع بقلبه الشيخ محمد رفعت والشيخ عبد الباسط عبد الصمد ، والشيخ محمود خليل الحصري والشيخ مصطفى إسماعيل ، وغيرهم من فطاحل عرفناهم وأنتظرنا سماعهم ، إلى جانب أننا ممن قرأ لكتاب مثل طه حسين ومحمود عباس العقاد ويحي حقي ويوسف إدريس وغيرهم ، وتعلمنا وسطية الدين وأن الدين إختيار قلبي وعقلي ، وكل خلق الله لهم حق إعتناق ما يقنع عقولهم وقلوبهم من ملة ، حتى يأتي الجميع إلى الله سبحانه وتعالى ويحاسب كل من خُلق على إختياره ، فلا يفرض أحداً من الخلق على الخلق إختيار المعتقد ، فلا إكراه فى الدين هكذا علمنا الله سبحانه وتعالى ولم يكره رسوله الأمين ﷺ أحداً لدخول الإسلام ، فمن شاء يسلم فهو من أهل الملة ومن لم يسلم فهو من الإنسانية ، وتعلمنا أن القيم هي ذات القيم في كل الملل ، لذلك كنا لا نجد حرجاً من تعلم القيم من كل داعية للقيم ، فسمعنا لما يقوله الأخرين بتقدير وإحترام لكل الملل ، حتى نتمتع بتقدير وأحترام لملة الإسلام الحنيف من كل الملل الأخرى ، فنتبادل معاً قناعة أن كلنا يؤمن برب واحد ، فيسود بيننا الحب والتقدير ، وهذا أفضل أن ينظر كل منا للأخر على أنه كافر ، فتسود بيننا الكراهية ولو سراً ، فقد تعلمنا أن قلوباً تحمل الكراهية لا تعيش كثيراً في راحة ، وقد عشنا في زمان صدحت فيه أجمل الأصوات من أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وفيرور وفايزه احمد وسعاد محمد حتى عبد الحليم حافظ ، فقد تم تربية الوجدان بلا إسفاف أو ألفاظ تخدش الحياء ، بل تدعم منظومة القيم داخل المجتمعات ، وليس كما يحدث هذه الأيام من فنون لا تُكون شباباً بمشاعر حقيقة ، بل بمشاعر تشبه مساحيق المكياج التي تجمل كل قبيح. 


 ♠ ♠ ♠ ا. د/ محمد موسى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق