يتربع " النوري" فناء المنزل في جلسته الصباحية المقدسة يراجع حساباته ويتفقد كشوفاته و يجري اتصالاته المتفرقة والأكيدة، ولا ننسى طبعا حصة المراقبةالإدارية لأهله.
ففي هذا المكان هو من يضبط دواعي الخروج ومواعيد العودة. حيث يواصل في المساء متابعة أحداثهم اليومية التي يحسب لها ألف حساب . تتقدم نحو حرمه المصون ببدلة نوم تبرز في صداره الطويل صورة دب قطبي جميل، فينظر لها مبتسما ثم يستنهض نفسه ليجلس تماما قبالة مائدة لا تتجاوز مساحة سطحها الخمسة والعشرون سنتيمترا مربعا والتي لا تتشرف إلا باستقبال قهوته ودفتره الذي طال عليه العهد فاستحال إلى ستار ورقيّ يشبه المروحة الورقية أو ماء شابه جناح طائر أبيض وهو يتمطى. تضع القرينة الفنجان مبتسمة :" قهوتك سي النوري ". ثم تحاذيه .
_ أين دبّك ألا يزال نائما؟
_ إنه في أحضان "فاطمة" حرارته مرتفعة ويعاني من الإسهال سأحمله إلى المستوصف يحتاج طبيبا .
بعد مدّة
تخرج الأم برضيعها بعد أن استأذنته في المرور إلى منزل والدها قبل العودة. وفضل "النوري" البقاء في المنزل يستأنس بوجود ابنتيْه "سعاد " و"فاطمه" فقد مرّ وقت طويل دون أن يحادثهما . ينظر إلى الغرفة ويجوب نظره في الأفق الأعلى وكأنه يرجو حدثا لا يدرك موعده إلا هو .
"النوري عبيش" رجل خمسيني ّ يحافظ على قدر كاف من الوسامة؛ وجهه بيضاوي تتناسق فيه القسمات لتضفي عليه وقارا وشموخا ، له من العيون عينان مستديرتان كثيفة الرموش يرأسهما حاجبان كّثان يتصلان في الوسط بتجمع دائري لبعض الشعيْرات فتشرق بلونهما العسلي لتجمع بين الفطنة والثقة.
اذا ضحك ينكشف عن شفتيه المكتنزتيْن فك علوي ينتظم موسطه في ترتيب تفاضلي من الأكبر الى الأصغر فينفرج صدغاه لتتقلص وجنتاه فينحصر ذقنه ويتوازى مع فسحتيْ غرّته التي تتأخر فيها بصيْلات شعره إلى الوراء قليلا .أما إذآ وقف جانبك ستجبر إما على التأخر إلى الوراء أو إلى رفع رأسك قليلا لتدرك بصره. يروم بعض البدلات دون أخرى كما لا يتنازل عن ارتداء الأقمصة صيفا وشتاء. رزق بصبيتيْن من الزوجة الأولى التي فارقتهم متأثرة بمرض عضال ثم بصبيًّ من زوجته الشابة سمّاه "أكرم" احتفل بختانه مؤخرا ويأمل من الله أن يرزقه مداد السنين كْي يدركه رجلا .
تتسارع البنتان في خطوات رشيقة متتالية وتدركا مجلس والديْهما فتتأبط كلتاهما بذراعيْه وسط وابل من التحايا الصباحيه .فيبتهج سيّدنا مهلّلا :"أهلا بالصبايا".
ص9 يتبع ......
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق