الحكمة
كنت يوما في العشرين أقول : قريباً سأبلغ الثلاثين .. ثم ، تلتها السنوات الأربعون .. والخمسون .. والستون .. وغدا العقد السابع يجري في عامه الأول .. الواحد بعد الآخر وأنا في المجلات أقرأ كثيرا عن تجاعيد الشيخوخة ..
لا يبدو الأمر هام للغاية ، لكنك في هذه المرحلة العمرية الأخيرة كلها , ستقول فيها لأبناء أبناءك : اترون ، إن هذا الفيلم الذي نشاهده الآن هو نفس الفيلم الذي شاهدته قديما عندما كنت في مثل سنكم .. وعلى حين غرة ، ينادونني : يا حاج...احذر .. يا جدي .. انتبه إن الدرج في غاية الصعوبة وأنت لا يمكنك تسلق درجتين متتاليتين في آن واحد .. فصحتك وسنك في هذه الأيام ، لا يسمحان لك بأخذ أكثر من درج واحد وبحركات متثاقلة .. فيشتد بي الضحك الى درجة الجنون .. البراهيش تطلعوا على أمري .. ومع ذلك ، أتعمد الخروج لألتقط حصى بكل ألوان السعادة : أنعزل قرب كبار السن مثلي .. أسمع منهم الأساطير والحكايات التي أعرضها على احفادي ليلا .. نعم ، إن أحفادي ذراع تلتف كل يوم حول رقبتي لمعانقتي أو حمايتي بشكل أفضل من السقوط .. وبفضلهم كذلك أستطيع عبور هذه المحنة بسلام دون أن تغرق عواصفي الرعدية على حطام سفينة الزمن .. لذا ، أغني معهم كل يوم وأرقص بالقرب منهم وأنا أتناول معهم الكعك والحلويات على أطباق صغيرة دون التفكير في شرائها .. وأحيانا ، أخرج في الصباح الباكر مع كل بوم القرية لنرى جميعا شروق الشمس .. وأجوب أزقة الدوار لوقت طويل وسط نباح الكلاب .. أستمتع حقا بصوت الديكة التي تفضل الصمت وسط رائحة النباتات الخضراء وروائح التبن المعلوف .. وكذلك ، أستمتع بشكوى ذوي سوء الحظ من الناس الذين يعودون الى بيوتهم دون عمل وهم يعانون من ومضات غضب بني عمومتهم ومن غباء انتشار الكراهية بين الناس ..
أقول كل هذا وقد نكل بي العمر .. حجز عني قراءة الكتب والمجلات والصحف أكثر فأكثر : أصبحت أحدق مليا بين الأوراق بنظارتين طبيتين للوصول إلى عنوان تلك جريدة .. وبدونهما ، أجدني على وشك الخروج من المقهى لصعوبة قراءة كل الأرقام الموجودة على بدايات الفقرات .. أو أستجير من يقرأ لي أخبار اليوم بصوت عالٍ وهو ما يزعج الناس كثيرًا .. فينفضوا من حولي ليتحدثوا بهدوء شديد وهم حريصين على راحتي بكل رفق : حاسة السمع قد تناقصت عندي .. اضف الى ذلك ، إني أصبحت لا أرتدي نفس اللباس كباقي المارة .. كل بدلاتي بدأت تنكمش فوق ظهري .. وازداد عرضها على خصري .. كما صعب علي الوصول إلى أربطة حذائي .. وأصبح الثلج في كل جسمي أثقل مما كان عليه .. إذ ، عظمت من حولي كل التيارات وبدأت أشعر أن المسافات من حولي قد ازدادت .. في هذه اللحظات ، أحسست أن كل العمر قد ولى وذبل كل ما في جسدي ، وأن التجاعيد ستستقر فوق وجهي ليستحيل لون شعري إلى أبيض ..
الآن ، أفكر في الابتعاد عن الجميع .. لكن الذكريات تعود بي إلى ماضي وإيماءات الحب تشدني الى لقاءاتي الناذرة .. فأبتسم قليلاً وأنا أقول للنساء من حولي : مرحباً .. مساء الخير .. وأهتدي الى أن الشباب هو هدية من الحياة وأن الشيخوخة هي اللوحة الفنية الفاقع بياضها التي تهديها الموت .. إنها زينة الدنيا .. إنها الحكمة ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق