تمشي الأشجار
ما أسرعها .. الأشجار تمشي مسرعة
تركض ...
طفلي ذو الخمس سنوات المفتون بالمشهد والذي لم يلحظ مثله من قبل .. حاول ان يعد الأشجار وهي تمر مسرعة .. وقد أخفق في ذلك
دون أن يكدره هذا الإخفاق لأن الأشجار كثيرة جدا .. ويصعب حتى على أبيه أن يعدها في ظهورها واختفائها السريع ..
لاحظت على طفلي الذي اجلسته بحضني لصقه وانشغاله وحديثه إلى نفسه .. فسألته :
من قال لك ان الأشجار تمشي ؟
فقال .. ها هي تمشي. . انظري
كانت هناك صفوف من أشجار الزيتون والتين على مد النظر
صفوف طويله متقاطعة ومتجاورة
وذات لون أخضر داكن .. بما يكفي لأشباع نهم الرائي المولع بالأخص
تلك الطريق التي جرى شقها بين الجبال والمنحدرات والقرى العربية
غربي رام الله .. اقتحمت مساحات هائله مزروعة بأشجار الزيتون والتين غير المعمرة .. على بعضها يعيش لأكثر من ربع قرن .. وكروم العنب الممتدة على التربة الحمراء ..
التربة التي يسمونها القرويون سمكة
دون أن يعرف أصل التسمية ..
السيارة هي التي تمشي وليست الأشجار يا طفلي ..
قلت هذا وانا جازمة واحنو على طفلي بذراعيي على كتفه الصغير
فأجاب طفلي
انظري ماما إنها تركض. . ألا ترينها
ونظرت إلى الأشجار المتتالية والمتزايدة .. وقد ابتعث المشهد في نفسي ذكريات غامضة وجياشة
- الأشجار لا تمشي .. ولا أقدام لها
وكررتها. .
فيما بدأ طفلي متهئا للتقيؤ بفعل الدوار الناجم عن متابعة المشهد
المتبدل .. وموجات الريح التي تهب من النافذة ..
فاما الأب الذي بقي صامتا وسارحا في هذه الأثناء .. أوقف السيارة عندما دعوته إلى ذلك .. ورجل طفلي بصحبتي .. فلم يخرج من جوفه سوى قليل من الماء .. ولكن وجهه أصفر .. فسألته إن كان قد انتهى مما هو فيه وارتاح. .
فقبل أن أعيده إلى جانبي .. دعوته أن يلاحظ الشجرة التي وقف تحتها وتحت أغصانها الطويلة .. والمتوقفة في مكانها لا تتحرك .. بدت له شجرة الزيتون في وقفتها تلك .. كائنا قويا أبكم .. متعدد الأذرع لا رأس له .. حتى خشي أن تتحرك باتجاهه وتفتك به .. فهو لم ينشأ بين الأشجار خصوصا الكبيرة منها ولم يألفها .. إذا نشأ بين أربع جدران أمام التلفاز .. وقد وافق أن الأشجار بجواره واقفة متوقفة .. لم يقل لي إنه سمع أصواتا غريبة تصدر من جوف الأشجار .. لم يخف من تلك الأصوات .. وهي لحشرات تدعى مغني الزيتون أو مغني الصيف .. وتصدر ازيزا عاليا منتظما ورتيبا
وانتظر أبوه أن يقود السيارة ليراقب الأشجار من جديد .. وقد لاحظ أنها بدأت المشي ما أن انطلقت السيارة
السيارة هي التي تمشي الآن
قلت هذا لطفلي. . فرد طفلي
والأشجار أيضا تمشي ..
وهنا تدخل أبوه لأول مرة .. وقد راقه عناد طفله
- الأشجار تمشي حين تمشي السيارة وتتوقف عن المشي ما تتوقف السيارة .. قال الأب وهو يكتم ضحكته :
فهتف طفلي مزهوا دون أن يكتم كركرة ضحكاته .. ضحكه الفوز
صح ابي يعرف أكثر من امي ..
لم أجد ما أعقب به فورا .. أمام التواطؤ فأصبحت اتملى من جديد
ارتال الأشجار التي بدت كأطياف لمرثيات منسية وذكريات هاربة
أما زوجي الذي يصحبنا لزيارة قريته .. بعد أن حاز إذن دخول من المحتلين لزيارة موطنه. . فقد استذكر بانتشاء وحسرة الخداع البصري الذي طالما وقع فيه أيام الطفولة .. حيث كانت الأشجار تندفع مذعورة تباعا على الجانبين
وفي الاتجاه المعاكس لحركة المركبات ..
قال يا طفلي
هذا الخداع اللطيف الذي حرم منه إلى الأبد .. ونال بدلا منه ما لا يحصى من أشكال الخداع البشري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق