علَّمتني الحياةُ
------------------
علَّمتني الحياةُ أن أَكُونَ راضياً
مستسلماً لله مُتعلِّماً لا جَهولا
بهِ أنسى الأسى والآلامُ تتركني
به ألقى الخيرَ وللمَأمولِ وُصولا
أسدلتُ عن لُجوجي كُلَّ هَوىً
وعن السُّخطِ والفظاظةِ سُدُولا
قنعتُ بما قَسَمَ الرحمنُ من أمرٍ
فمَن رضيَ عاشَ مُغبِطاً لا عَذولا
الناسُ صنفان أجدُهما قد تَميَّزا
لئيماً ذا قسوةٍ أو ذا خُلُقٍ نبيلا
لا أخشى مِن لئيمٍ لؤماً يُعرَفُ بهِ
أو فِعلاً بادياً أو مِن لسانه قِيلا
ولا أبتغي عند النبيلِ أيَّ حاجةٍ
ولا أرومُ منه قِطميراً أو فَتيلا
فلي ربٌّ كريمٌ أشكرُ فضلَه دائماً
فما كان عطاءُ الكريمِ إلا جميلا
كم أثابني تكرماً عن قليلٍ فعلتُه
ماعهدتُ عطاءَ الجَوادِ إلا الجزيلا
لي فؤادٌ بالحبِّ قد أمسى واسعاً
لا أرضى بالبغضِ عن الحِّب بديلا
أُكرِمُ ضيفي إنْ كان لقلبي مؤنساً
وأجُودُ بما قُدِّر لي وإن كان ثقيلا
ماكان رضايَ إن قسى الدهرُ ضعفاً
أو هواناً انظر لقلبي ترَ الصبرَ دليلا
قد حبانيَ اللهُ الصبرَ مجدولاً بالرضا
فبات فيَّ الرضا ساكناً أضلعي أصيلا
وذي من نِعَمِهِ التي لا أحصي عَدَّها
لا يهَبُ اللهُ الرضا مِن عباده إلا قليلا
بالرضا أوقِنُ أنَّ اللهَ بكلِّ آنٍ معي
أوقِنُ به ناصراً على كروبي ووكيلا
علَّمتني الحياةُ فقد خَبِرتُ طِباعَها
كم أذاقتني مرارةً بِطعمِها ومَعْسُولا
لا آبَهُ لها فطبعُها المتغيِّرُ قد ألفتُهُ
وألفتُ غدرَها و التبدُّلَ التحوِيلَا
كُلُّنا شاربُ كأسَيْها وإن أبى بعضُنا
كأساً علقماً لازَمَنا طعمُه وسلسبيلا
فترانا كالزَّهرِ نتمايلُ والنسيمَ طرَبا
وتارةً تَهُزُّنا الأيَّامُ مِن عَطَشٍ ذُبولا
وتارةً نشعُّ كالنجومِ في عَتمِ الليالي
ونسْبحُ في مساراتٍ بعد الكمالِ أفولا
أو ترانا كالرِّيحِ هيَّاجةً في الفيافي
وتارةً كالمُزن تغيثُ العِطاشَ هُطُولا
وترانا كالظَّن بالآخرين بعضُه إثمٌ
وكيف لليقينِ أن يصادقَ الجَهولا
علَّمتْني الحياةُ إنْ سَرى عنِّي شيئاً
أنْ لا آبَهُ بكذوبٍ افترى عليَّ قِيلا
فحَبلُ كذِبِه مبتورٌ يَعرِفُهُ الورى
لا أرى فيهِ شأناً أو خَطْباً جَليلا
كم وكم مِن مُخادعٍ يُخادِعُ نفسَهُ
يَتوَهَّمُ أنَّهُ غشَّى القلوبَ و العقولا
وكم مَن عَبَدَ الهوى وباتَ أسيرَهُ
فمَالَ إلى المالِ وتتبعَ خدَّاً أسيلا
يرى بذي الأخلاقِ الفقيرِ ضَعفاً
يرى بِفِقْهِهِ ثَرْثَرَةً ولسانَاً طويلا
وبذي الجَاهِ مالاً وسلطاناً وقوةً
يرى أنَّه ذو حكمةٍ وأهدى سبيلا
بالفَتَّانةِ ذاتِ زيفِ الجَمالِ زُهِدوا
أبدَوا زَيفَ أخلاقٍ ما تمهلوا قليلا
تغنَّوا وتلَوا ما شاؤوا من الهوى
فتناسَوا القرآنَ وعافوا الإنجيلا
كم غَفَلُوا عن ثَواب اللهِ وعقابهِ
فَلْيذْكُرُوا ( وكانَ الإنسانُ عَجُولا )
هذه فِتنةٌ قد لازمتْ كلَّ أرضٍ
ولازمتْ شبابَ أُمَّتي و الكهولا
فإنْ قلتَ لا يا بَني قومي تَمَهَّلُوا
أتاك الجوابُ ياهذا لستَ رسُولا
فهذا الَّذي يُكذِّب بالدِّين جاحِداً
أمَا هَابَ عِقابَ ربِّهِ واليومَ الثقيلا
كم وكم من يُنصِّبُ نَفْسَه قاضِيَاً
وأنَّى لِفاقدِ العدلِ أن يكونَ عَدُولا
فتراه يَنعتُ البخيلَ القويَّ كريماً
وينعتُ الكريمَ ذا الضعفِ بَخِيلا
يحولُ عنِ الففيرِ وتراه مالَ مُبتعِدا
ويميلُ لذي المُالِ ويمتطي الخُيُولا
يُكرِم اللحوحَ ذا اللسانِ مِن عَطائهِ
وتتوارى أنظارُه فيُغمِطُ الخجولا
يصِفُ العذراءَ البتولَ سفَهَا بعيبٍ
والبغيُ ذاتُ العيوبِ يصِفُها بتولا
ومقطوعَ اليدين ظلما يَسِمُهُ لِصَّاً
ويُدَلِّلُ اللصَّ الظالمَ ذا اليدِ تدلِيلا
يُقلِّدون الغربَ بعمىً في كُلّ خُطوةٍ
ولَم يُتقِنوا حتى تقليدَه ولا التَّمثِيلا
تَبِعُوا قبيحَ فِعالِ الغربِ و وَضِيعَهُ
لم ينهلوا من جميلِ فِعالِه إلا قليلا
حتى إذا نشرَ الغربُ مُجْمَلاً رذائِلَهُ
نشرُوها بجَهَالةٍ وفصَّلوها تَفْصِيلا
عَلَّمتني الحياةُ أنَّ الغرامَ طُوفانٌ
من ذا الذي يردُّه وقد مَلأ المَسيلا
وأنَّ الخيرَ لا ريبَ فيها لا يَنقضي
فالخيرُ تأصّلَ في الفطرةِ تأصيلا
فإن كان للشرِّ جولةٌ زائفةٌ فاصْبِر
هيَ زائلةٌ لا تكونَنَّ قَنوطاً أو مَلولا
في الحياةِ يعيشُ النَّقِيضانِ دوماً
وتطويهِما الأيامُ قسراٌ جيلاً فجيلا
هكذا يَتَعَاقبُ الخيرُ و الشرُّ بيننا
نراهما يَتناقَلان بيننا غُدوَّاً وأصيلا
فكم مِن ذليلٍ قد باتَ اليومَ عزيزاً
وكم مِن عَزيزٍ قد باتَ اليومَ ذليلا
وكم مِن عَلِيلٍ قد عاشَ أمداً مُعافى
وكم مِن صَحِيحٍ يَتَقَلَّبُ اليومَ عَلِيلا
وكم مِن غَنِيٍّ أرْدَاهُ الطعامُ مِن تُخْمَةٍ
وكم مِن فَقِيرٍ يَتَضَوَّرُ جَوْعانَ هَزِيلا
لا تزال الوالداتُ يلدنَ قابيلاً قاتلاً
تراهٌ مَزهواً بَطِرَ الفَعالِ يَقتُلُ هابيلا
فهو يُنشدُ السلامَ في جِنازتِه مغرداً
كأنه حَمَلٌ وديعٌ لم يعرفِ التَّقتيلا
أو كأنَّه بالفنِّ رسامٌ قد أبدعَ لوحةً
أتقن فيها تزويرَ الوجوهَ والتَّظْلِيلا
علَّمتْني الحياةُ ألَّا أقولَ قد عَلِمْت
فإنْ قلتُ قد عَلِمتُ كنتُ الجهولا
علَّمتْني الحياةُ الوفاءَ لِمن علَّمني
أن أقومَ لهُ حُبَّا وأنْ أُوَفِّيَهُ التبحيلا
أنا ما شكوتُ ضَجِراً و لا لَجوجاً
فلي في الرضا باعٌ لايزالُ طويلا
قد عودتُ نَفْسي الرضا به يُنتَسَى
كلُّ همٍّ وجعلتُ من دمعتي رسولا
فهي نائبتي إليه في حاجاتي كلِّها
ويدان قد رفعتهما بيقين لن يزولا
هذي حالي وكذا قومي يا عليماً بها
يامن لا يخيِّبُ من رام لِجُودِهِ وُصُولا
يارحيماً قد وضعتُ حاجَتي على بابِهِ
يامَن يُكرِمُ نزيلَ جودِهِ ويُكرُِم النُّزُولا
محمد حميدي
مع بعض الاقتباس
للشاعر المصري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق