الأبعاد المتنافرة ...
سألتني بهدوء: أين تقطن ...؟ أفقدتني قدمي وأغرقتني في دموعي بسؤالها .. وبدت أبجديتي بعيدة جدا .. لم أعد أعرف ماذا أجيب إلى درجة أني نسيت من أين أتيت .. لكن ، ومما لاشك فيه أنني من هذا العالم .. وأصل جذوري من شجرة عريقة في الزمن .. ربما هاجر آبائي من أحد أبعاد العصر الحجري القديم أو العصر الحجري الحديث .. ربما كانوا من أسلاف فاتحين أو من طائفة معينة ممن هم هربوا من الفيضانات أو القهر ليأتوا ويستقروا في قصص التاريخ غير المروية .. ربما أنا عديم الهوية على الرغم من أن وجهي بارز وأسمر اللون وعلامات دمي الحمراء تعطي شعرا بلون أسود .. أأقول لها إني عربي ؟؟ إن هذه البطاقة قد صدرت مع صورة باهتة ناتجة عن بصمات أصابعي وضاعت آثارها مع قساوة الزمن .. المهم ، أنا إنسان محكوم عليه بالسجن بكفالة ولساني مكمم حتى لا يخالف القانون .. إلى هنا لم أكن قد أجبتها على سؤالها .. أين أقطن ؟ هل أقول لها : أنا من هنا أو من هناك أو أسكن في أي مكان آخر .. إن ذلك لا يهمها .. أنا أغير الأماكن التي أقطنها باستمرار .. تارة في أعالي الجبال .. وأخرى في بحار لا نهاية لها .. أو وسط الكثبان الرملية التي تتأرجح بالتقوى بين اغاني الشفق وسمفونية المحيطات .. ولما عيل صبرها قالت : أنت بلا شك تعيش بلا هوية .. دون جنسية .. ومسافر في هذا الكون بلا جواز سفر .. تتجول وتدور ربما دون أرض كطائر منبوذ محروم من البلسم .. نعم ، لا أرض فيها منارتك !
وعلى حين غرة ، قلت لها : أنا رجل بلا قدمين يرغب في الجري .. لدي طريق طويل لأقطعه خطوة بخطوة .. أكره وجهك المشرق واليد التي تمدينها لي .. بقيت واقفة أمامي وهي تهيمن وتستفز دون مسامحة .. لم تكن في عجلة من أمرها .. بل كانت متأنية وتنتظر بصبر .. لا تحلم .. ولا تخطف النظرات .. وإنما تتذوق بعناية وتحكم .. وتنتظر اللحظات المناسبة لتوقظ حواسي .. ثم قالت : إن حب المرأة يذيب الجليد حتى يتبخر في ماء النسيان .. وتنقذ كل مطيع غارق من خندق الموت .. لا أغادر أشجار الجبال الشامخات ولا أنشد أغنية العظام .. فأنا امرأة لا تترك نصف العالم محروما من عيون الأنهار الدافئة عندما يبكون كأطفال وهم يعوون تحت سحابة مكسورة .. سكتت طويلا وأنا أداوي جروحي ثم قلت لها : إن في حقول المرأة إبرة مثقوبة العين تصرخ بالحب .. إبرة وحيدة تحلم بخيط من خيوط قوس مؤلم .. أو زجاجا طويلا يخرم الأرض .. وتنتظر حمامة حتى تعود لتهب لنفسها لحما طازجا عوض أن تنقدها من حياة نسر مسمر في نسيم النجوم ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق