السبت، 18 ديسمبر 2021

صحوة ضمير...بقلم الأديب نظير راجي الحاج

 (           صحوة ضمير.....      )

___________________________

دخلت زوجتي الى محل صغير، كتب عليه.. (خياطة وتصليح ملابس للسيدات).

كانت صاحبة المحل تحيك ثوبا لسيدة تجلس بجانبها.

رحبت الخياطة بزوجتي، وأخذت منها الفستان المراد إصلاحه،  واعتذرت منها كي تنتظر قليلاً، حتى تنهي ما بيدها من عمل.

أخذت الخياطة تكمل حديثها مع الزبونة، والظاهر ان الموضوع كان ببدايته.عادت الخياطة تتحدث:_

لما سافر أخي إلى النرويج، تركني مع امي وحيدتين لوحدنا دون سند. 

قاطعتها السيدة هل النرويج هذه بافريقيا؟

قالت:_هي في شمال اوروبا، نيجيريا هي من في افريقيا.

ماعلينا..  يوم سفر اخي كان عمري يومها عشرون عاما.

اول مبلغ بعثه أخي لنا، اشتريت به هذه.. ماكنة الخياطة، ثم أخذت دورة خياطة في أحد المراكز، حتى تمكنت من عملي. تعرفت اولا على جيران شقتنا، ثم جيران جيرانا، وهكذا زاد عدد الزبائن والحمد لله.

سفر اخي كان وجع امي الدائم، فنحن نسكن مدينة اربد وليس لنا اقرباء هنا، حتى على مستوى الاردن، ليس لي الا ابن عمتي اسامة الذي يسكن  منطقة وادي السير في عمان.

لاحظت بعد فترة من عملي، أن والدتي أخذت بالهزال، وليس لها شهية للطعام، ووهن جسمها، وأخذت تشكو بعدها من آلام

شديدة، فأخذتها الى مستشفى الملك المؤسس هنا في إربد الى قسم الباطني، طلبوا مني فحوصات عاجلة لها، فأخذ المختبر منها فحوصات للدم والبول، ثم التصوير بالرنين المغناطيسي، والتصوير بالموجات فوق الصوتية، والاشعة السينية، واخذوا خزعة من امي. وبعد وقت كنت على نار دخلت على الطبيب ففتح الشاشة امامه، واخذ يقرا البيانات

التي وصلته من المختبر، ثم رن الطبيب الجرس، فدخل الممرض، وامره بنقل امي لغرفة في قسم الباطني.

قال الطبيب:_ انت ابنتها، اليس كذلك؟

قلت :_نعم.. خير يا دكتور.

قال:_شككت بوجود سرطان معها، تبين امامي ان الفحوصات ايجابية.

ابتسمت وقلت الحمد لله.

لاحظ الطبيب ما بي، فقال:_يا ابنتي.. ايجابية تعني ان امك مصابة بالسرطان للأسف.

لا اخفيك ايضا ان وضعها الطبي، فهو في مرحلة متاخرة، في المرحلة الرابعة من السرطان.

كان هذا اسوأ يوما في حياتي.


توقفت السيدة عن الحديث، ومسحت دموعها بمنديل من قماش امامها، ثم اكملت..

المهم نقلناها الى مركز السرطان في عمان.

كنت اذهب اليها يوميا من الصباح الباكر، واعود قبل المغرب حيث اركب اخر حافلة تتجه لاربد.

كانت امي تتعالج  بالكيماوي، ولما اخذ شعرها يتساقط، كان قلبي يسقط معه.

في احد الايام، اردت الخروج من المشفى كالمعتاد، للعودة الى اربد، فوجئت بيد امي، تمسك بيدي، ورغم وهنها وضعفها الا انها اخذت تشد على يدي، وتقول:_

لا تتركيني الآن، قد لا اراك يمْة..

رحت اقبْل يدها، ودموعي تهرول على يدها الطاهرة، ثم قالت لي_

ارفعي رأسك، اقتربي مني، قد لا تريني غدا، هل توعديني ان تنفذي وصيتي.؟

قلت:_الله يطول عمرك، طبعا... طبعا.

يامْة.. ستضحكين علي، وابتسمت ابتسامة حزينة، ثم اكملت

هناك امانة وضعها عندي والدك الله يرحمه ، تنهدت، وقالت :_

اشتقت له، اقترب اللقاء.

اعود للامانة.. إنه مفتاح بيتنا الذي هجرنا منه قسرا من بلدنا كفر قاسم. احتفظي به، وسلميه لاخوك،إن جاء من غربته،وإذا  تعذر، احتفظي به للمستقبل، وانقليه لاولادك. 

كنت اتمنى ان اعيش حتى اراك عروس، لكن انا اريد، وانت تريدين، والله يفعل ما يريد.

اما الوصية الثانية فهي ان ادفن بجانب ابوك في المقبرة الاسلامية في اربد.

قالت زوجتي:_

اخذت  السيدة تبكي بكاء مراً، ورحنا انا والسيدة بالبكاء معها.

قلت لزوجتي ودموعي هي الاخرى بدات تنزل، وماذا حصل بعدها.؟

قالت:_اكملت الخياطة بقولها:_طلب مني التمريض ان اغادر الغرفة، لانهم سينقلوها للعناية المركزة.

خرجت من المركز، والدنيا تدور بي، اين اذهب بهذا الليل!

لا توجد مواصلات في هذا الوقت، تذكرت ان عنوان بيت ابن عمتي في عمان موجود معي، لم يكن يومها في هواتف نقالة.

كان ابن عمتي اسامة يسكن في منطقة وادي السير. 

أشرت لسيارة اجرة،كانت قد أحضرت مريضا مع اهله للمركز.

ركبت السيارة بالمقعد الخلفي، قرات اسم السائق على اللوحة

اسمه (ياسر).كان شابا من عمري. 

سألني ياسر هذا بعد ان سار مسافة لا باس بها:_هناك طريقين

لهذا العنوان، طريق البيادر، وهي طريق مزدحمة بالسيارات

وطريق بدر، طريق آمنة، خالية تقريبا من السيارات.

قلت:_كما تريد.

قال:_إذن نأخذ طريق بدر.

سارت السيارة، وانا اقرأ القرآن بسرّي، وأدعو لأمي بالشفاء. 

اختفت البيوت، ونزلت السيارة لمنحدر، وإذ نحن في منطقة بها غابات كثيفة، ولا يوجد حياة، ولا بيوت، ابطأ الشاب السير. ونظر بالمرآة، وقال:_هذا وادي السير الذي تغنى به مصطفى وهبي التل(عرار) حيث قال:_ليت الوقوف بوادي السير إجباري.

لم ارد عليه، لاحظت انه ابطأ اكثر، واخذ ينظر الي بالمرآة

قرأت الغدر في عيونه.

فاجأني بقوله وهو ينظر بالمرآة:_الله على جمالك! .

شعرت بالرعب والخوف، فكرت ان اخنقه من الخلف.

لكن وجدت نفسي اقول له:_يا ياسر..

ابتسم وقال:_يا روح ياسر.

قلت:_انني استجير بك.

قال:_ماذا قلت؟

قلت:_امي تلفظ انفاسها الان، تركتها تحتضر، ليس لي احد لا أب ولا أخ.

انت اخي.. استجير بك.

قال:_على من تستجيرين بي؟

قلت :_على نفسك.

توقفت السيارة، ورمى راسه على مقود السيارة، وراح يبكي

كالاطفال.

ثم رفع رأسه، وقال:_وصلت.. وصلت.

انت اختي، والله لن امسك بسوء. والله كنت انوي لك الغدر

لكن لما ذكرت امك ومرضها، تذكرت امي التي ماتت بنفس المرض، رايتها بهذه اللحظة تقول لي:_سأغضب عليك، إذا مسستها بسوء. 

سامحيني ... أختي.. . سامحيني..يا إلهي.. 

عاد يسوق سيارته، ويقطع المسافة القصيرة المتبقية وهو يقول:_لا حول  ولا قوة الا بالله.

اوصلني لبيت قريبي، ثم طلب من قريبي الذهاب للحمام فدخل وتوضأ، وسأل ابن عمتي عن القبلة، وصلى،قام من صلاته وقال:_هذه اول صلاة لي بحياتي. 

ليسامحني ربي، خربطت بالحركات.

رفض ياخذ اجرة مني، واصر ان ياتي في صباح اليوم التالي

واخذنا انا وابن عمتي وزوجته للمشفى.

فارقت والدتي الحياة بنفس اليوم.

قلنا لها :_الله يرحمها.

قالت:_نسيت ان اخبركم ان هؤلاء واشارت الى ولد وبنت يلعبون بالخارج، هم اولادي، اما ابوهم فهو ياسر سائق التكسي الذي حدثتكم عنه. 

انه متدين ويقوم بالليل، بعد عودته بالسيارة، بصلاة العشاء وبعدها يقوم بتحفيظ الاطفال القرآن. 

__

القصة حقيقية.. ليست هلوسات

نظير راجي الحاج

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق