مجنون القطار ....!
يتدحرج الصّمت المتٱكل في حنجرتك سمكا أزرق يتلوّى على الرمل ... تتفتّح الكلمة المدفونة ، يهترئ نبضها،وتذبل في شمس حمراء كلون لسانك ... الّلون الأحمر في ذاكرتك قطع من الغضب مستطيلة مستديرة مثلثة فوضوية الشكل تحمل على نار وقودها الفرح الجنوني ، وترقص في صدرك غابة الزيتون .... تورق الأشجار ، تزهر ، تذبل الازهار ، تسٌاقط لأن ريح النفس تعصف.... تعصف ... تسقط نفسك من حالك وتتهشم قطعا من الزجاج ، تتقسّم ، تتكوم ذرّات ، وتبحث عن نفسك فتتراءى لك في الكهف اللامتناهي ليلا جاثما يمتصّ رُضاب النجوم ويتبوّل خيوطا كأنها الشعر المنفوش ، وتضحك لأن الضحك في زمانك رخيص في متناول يدك تأخذه متى أردت أن تعبّر عن غضبك الطفولي وتلقي به على شاطئك بين أسماك زرقاء بيضاء صفراء خضراء برتقالية... ماذا هناك ؟ رؤوس سوداء الشعر ... عيون أفواه تضحك ، وجوه تبتسم، وجوه قاتمة ، وأنت تنظر إليها ولا تراها في البدء لأنك تفكر في السمك الأزرق الاحمر ولسانك واشجار الزيتون والكهف اللامتناهي والليل الجاثم والشعر المنفوش.... وتنفجر ضحكا لأنك تصورت أحدهم يكشف عن عورته ويخدش عجزه باظافره ثم يرقص رقصة افريقية فيها جنون... ويقترب منك شاب ، ويسألك : ما ٱسمك؟
تقول له "الكامل " ويعيد عليك السؤال فتجيبه:" الهادي "
ثم تقول "المنصف" .... ، وتستعيد الضحك لأن الرجل الذي تصوّرته عاريا كان يغطّ في نوم عميق فينفتح منخاره ، وينغلقان ، ويرقص حاجباهُ.... قال لك أحد الشبّان الجالسين حذوك : يبدو أنك من الاعيان ، قصّ علينا حكايتك ! ، وتغامزوا في خبث ... لاحظت ذلك وأنت القابع في نفسك تنظر من النافذة إلى الفضاء الممتدّ ، وإلى الأشجار المتلاحقة والخط الحديدي الهارب منك ، وأشياء أخرى لا تستطيع أن تتبيّنها لأنك في غشاوة من التفكير بل لعلّ تفكيرك بلغ الحد الأقصى من الشفافية فما عدت ترى العالم في تكامله ... تفكّكت الألوان وتباعدت الأشكال وغار المكان وترجرج الحلم الدفين في مخيّلتك ، وكدت أن تكشف عن رموزه لولا الفضاء المتهدّم فيك .... مدّ إليك أحدهم يده وصافحك بحرارة مفتعلة، وأعاد الطّلب ....
القاطرة تهتزُّ فتحس بالامتلاء حولك ، فينفلت لسانك عنك وتلامس بأصابعك المرتعشة المِرمٓدةٓ الفلاذية ، ويتبادر إلى ذهنك معنى البرودة ، وتنفجر ضحكا لأن صورة الرجل العاري عاودتك من جديد ، تصورت بطنه طبلا تدقه بقدميك وأذنه المترهلة زمارة يرقص عليها كلّ من القاطرة .... ووقفت لتخطب فيهم وصرخت : أنا الإنسان الذي حاول خلق نفسه قبل خلق الاخرين ، أصلّي للخالق الأوحد في نفسي ، وأمّا أنتم فتصلّون للبشر وتتوهّمون أنّكم تعبدون إلاها .... وتعالى ضحك الشبّان ، وامتعض الشيخ الجالس أمام الرجل النائم وهو يقول : اللّهم أدم نعمة العقل والدّين .... وتماديت في خطابك الحماسي : أيّها الشّعب الكريم أنا الزّعيم الّذي تربّى في قصر البايات، وكلّفه الروس والأمريكان لحفظ الأمن في ربوع العالم .... سأمنحكم العدل والحرية مقابل أن تصنعوا لي صاروخا من الهواء يدمّر العالم وأركبه أنا بمفردي وأطير في الأجواء لأرث العرش الأكبر وأعيد إليكم الأرواح على ان تركعوا لي في كلّ يوم ركعتين ثم تبصقون في وجهي....
لسانك ينفلت .... تفطّنت إلى ذلك فأمسكته بأصابعك وخفت أن ينزلق فتنهال عليك أيديهم بالضرب ، ولم يستقر ّ بين أصابعك فعاد يركض تلاحقه ضاحكا لأن الضحك في زمانك رخيص لا يباع في المغازات العامّة والخاصّة بأثمان باهضة مثل البندق والفستق والعطر وفساتين النساء والاحذية ..... نطق لسانك من جديد بأصوات حلقية لا تفهم ُ ، وإشرأبت إليك الأعناق وتطلّعت إليك الأعين المستهزئة .... إنّه مجنون .... وهل أنت مجنون حقا؟ تذكرت أمك وهي تندب وتصرخ في سقيفة الدار :
"الكامل " فقد عقله .... وقفت أمامها بقامتك الفارغة وقلت لها : لست مجنونا يا أمي ولكن في قماش السروال أشواك تخزني ثم أنت ولدتني عاريا وأمك ولدتك عارية ، وأما جدي فيبدو انه لم يولد بعد لأني لم أره قطُّ .... قالوا : إنه مات وأنا رضيع ... وهل يعقل أن يضمحلّ إنسان في وجودي وأنا أجهله.... بكت أمك .... لطمت وجهها ، فأقبل عمّك وبيده عصأ .... ظنّ انك تضربها ، وهل يعقل أن تضرب المرأة التي دلّلتك وأحبّتك إلى حد الفناء فيك ، وأنت اليتيم الذي فقد أباه وهو طفل فكانت الأب والأم معا .... صرختً في ذلك اليوم :" الكامل" فقد عقله .... وأبصرتك زوجة عمّك عاريا فأطلقت ضحكة أقشعرّ لها جسدك ، وتمنيت أن تهشّم رأسها بالحجارة لأنها تكرهك ، تضربك لأتفه الاسباب ،وتكذب عليك . تقول لعمّك "الكامل" سبّني "الكامل" سبّ الجلالة "الكامل" يراود صالحة .... هل يعقل أن تضمر الشرّ لأبنة عمّك وأنت تحبها حبّا طاهرا لا تشوبه شائبة .... وقال لك أحد الشبّان الجالسين حذوك : غنِّ لنا إحدى أغانيك المفضّلة ! .... ، وفركت جبينك تتذكّر تلك الأغنية التي تقول : وحداني أعيش أنا وحداني .... من صاحبها ؟ لماذا تبادرت إلى ذهنك في هذه اللحظة ؟ ! وعدت إلى زنزانة الصمت.... صوت المحرّك وارتعاشىة القاطرة والمكان العاري منك خارج النافذة وعيونهم الساخرة وهمساتهم القائلة : مسكين .... إنه مجنون .... يتدحرج الصّمت المتٱكل في حنجرتك سمكا أزرق يتلوّى على الرمل .... تتفتّح الكلمة المدفونة ، يهترئ نبضها وتذبل في شمس حمراء كلون لسانك الاحمر .... اللون الأحمر في ذاكرتك قطع من الغضب مستطيلة مستديرة مثلثة فوضوية الشكل تحمل على نار وقودها الفرح الجنوني ،وخارج اللون الأحمر بياض ناصع لا يتوقف وعطر إمرأة تتتعرّى للرّيح والأمطار وتنام واقفة مشدودة إلى جذع زيتونة يتيمة في فضاء لا يحدّ..... تغمضُ عينيك فتتراءى لك نفسك المهمّشة ذرّات ترتعش في زحمة الدخان ،ويرتفع في اذنيك صوت يشبه صهيل الخيول ، وتتصور نفسك تتجمّع ذرّاتها وتستعيد وحدتها الأولى ... وترتفع يدك إلى وجهك ، وتلامس جبينك ثم الخدّ الأيمن فالأيسر ، وتسيل دمعتان حارقتان ....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق