صبرية :
لست من كبار القصاصين ولا الكتاب المحترفين
أو النوابغ المشهورين . و إن كان هناك ذنب ، فذنبي الوحيد هو غرامي
بالكتابة والكتب . في هذه الحال ، ماذا كنت أنت تفعل مكاني ، وقد
تغلغلت فيك الهواية و عششت في رأسك الحكاية ؟.
انها واحدة من ضمن الحكايات . لا يمشي في ذهنك ، تظنها من وحي
الخيال ، ففي جعبة واقعنا ما يملأ الصفحات ويسيل من المحاجر
الدمعات . إلا إذا كنت تحمل حجارة مكان القلب ،أو غائبا في عالم
غير كون الإنسانية والحب .
أحداث هذه القصة انطلقت قبيل الاستقلال ( استقلال تونس)
وتواصلت إلى ما بعد الجلاء ( الجلاء عن بنزرت آخر نقطة في الشمال
التونسي) ، وهي كما يلي :
كان في قريتنا فتى أشقر اللون جميلا ، من عائلة مترفة بعض الشيء .
يعرف الللغة الفرنسية ويتكلمها بطلاقة . يعاشر أفرادا من الجالية
الأجنبية التي ظلت مقيمة آنذاك على التراب و التي أثرت أيما تأثير
اعلى لشباب . زد على ذلك وحسب تحليلاتي فالشاب كان الابن الأوحد
المدلل في عائلته . فمن يا ترى سيتزوج ؟ ، عفوا ، بل بمن
سيجوزونه ؟
بطبيعة الحال ولكي تفرح أمه ويرضى أبوه سيشترط على الفتاة
أن تكون بالأول بنت بلدتنا ، وبالثاني والأهم تكون بارعة الحسن تسر
الناظرين ، هكذا أو لا تكون .
ثم أخذت الأيام تتوالى كما في الخرافات . مضت فترة حمل الزوجة
اثرها مباشرة حصلت الصدمة الكبرى .هاجت هائجة الزوج ، وقف
في باحة الدار وصاح : بنت ، رضيعة ؟ كلا و ألف كلا ، غير معقول ،
الرجال لا تنجب سوى الرجال . هذه التي لطخت سمعتي و أحنت
هامتي ، لا ، لن تبقى دقيقة واحدة في بيتي .
ومثلما جرت به العادة ألقوا اللوم كل اللوم على المرأة وعاقبوها
بالطلاق .
فعلا ، غادرت الأم ومعها رضيعتها من غير رجعة .
انحلت المشكلة وتنفس الجميع الصعداء . لكن الآن من سيملأ الفراغ
ويعمر الدار ؟ نظروا إلى بعضهم ، تساءلوا بقلق ، وانطلقوا من جديد
في البحث ، اذ لابد من زوجة ثانية . زوجة تأتي لهم بولي العهد يشرف
العشيرة ويرفع الرأس .
وبما أنه لا إرادة إلا إرادة الله ، فلقد شاء الله أن تلد المرأة الثانية
بنتا أيضا و يطلقوا عليها أسم صبرية
ومنذ تلك اللحظة بدأت حكاية المولودة الجديدة صبرية . الطفلة
اليتيمة رغم تواجد أبويها . الصغيرة التي تسلمتها إحدى القريبات
كي تتقلد زمام تربيتها ورعايتها .
لأن المهم و قبل كل شيء في نظر السيد هو انبساطه وراحته . تراه
يقضي شطر نهاره في العمل أما الشطر الآخر ففي حانة المدينة ، مع
شلته يختمر حتى الثمالة .
هكذا دواليك توالت السنين ، بعدما كفلتها خالتها تعود صبرية إلى
جانب أمها .وما ان تبلغ السادسة عشر حتى تزف تحت ضغط ابيها
إلى ضابط له رتبة عالية في الحرس .ثم تندلع معركة
بنزرت فيستشهد هذا الأخير بلغم أرضي كان يحاول فكه . تحزن
صبرية لهذا المصاب ويشاركها كل الأهالي ويؤبن الشهيد في حشد
غفير . لم ينتهي المسلسل بالنسبة لها فهذه الحلقة الأولى من مآسيها ،
التالية عندما تموت ابنتها مباشرةأثر وفاة والدها . في الحلقة
الثالثة يلحق الابن بأخته و بأبيه الشهيد . هذا الولد الذي عاش معاقا
متنقلا بين منزل جدته ومسكن امه صبرية ، نسيت اخبركم ، أثناء تلك
الفترة تزوجت صبرية الأرملة برجل مطلق .تمتعت في كنفه بأيام
سعيدة هنيئة و انجبت منه البنين والبنات . بيد ان المصائب ما زالت
من ورائها ،فها هو زوجها الثاني يمرض ويموت ، وها هي الاخوة
تتفرق كل واحد يستقل بنفسه . فلا يبق سوى ولد واحد سيهتم بأمه
صبرية لتي تقدمت في السن وصارت عاجزة .وتأتي حلقة أخرى التي
هي بمثابة بركان مفاجئ يحطمها ألا وهو فقدان هذا الابن البار .
صبرية مستمرة في الحياة ، كل من يمر بقربها الآن تستقبله بابتسامة
عريضة وبلسان تفهم منه مدى عظمة هذه الأنثى و صبرها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق